على أطلال أسوار فيينا المنيعة

 

 

 

عبدالنبي الشعلة **

 

في زيارتي الأخيرة إلى فيينا، لم يكن المشهد الذي شدّني قصورها الفخمة، ولا مقاهيها التاريخية، ولا دار الأوبرا الشهيرة، بل أطلال سورها القديم الذي وقف شامخًا في وجه الجيوش العثمانية قبل أكثر من ثلاثة قرون. هذا السور ليس مجرد حجارة متبقية من زمن غابر، بل رمز لمعركة فاصلة شكّلت منعطفًا في تاريخ أوروبا، وألقت بظلالها كذلك على تاريخنا نحن العرب والمسلمين.

لقد حاول العثمانيون اقتحام فيينا مرتين: عام 1529 ثم عام 1683، وفشلوا في المرتين. وكان فشلهم الأخير بداية أفول إمبراطوريتهم، وبداية صعود أوروبا نحو عصر النهضة والتنوير. لكن السؤال الأهم ليس ما حدث في فيينا، بل ما يكشفه هذا الحدث عن فهمنا للتاريخ، وعن الطريقة التي لا نزال نقرأ بها علاقتنا بالآخر.

هل كانت تلك الحروب "فتوحات إسلامية" كما سُمِّيت في كتب التاريخ العثماني؟ أم كانت مجرد غزوات إمبراطورية لا تختلف عن توسعات الفرس والرومان والإسكندر؟ إذا كانت "فتوحات"، فلماذا شملت أراضي عربية وإسلامية مثل مصر والشام والعراق والجزيرة العربية، وهي بلاد مسلمة منذ قرون؟ وإذا كانت باسم الإسلام، فما الذي جناه الإسلام منها سوى تراكم الأحقاد والعداوات في ذاكرة الشعوب الأوروبية؟

هذه التساؤلات تقودنا إلى جوهر المسألة: التوسع العسكري باسم الدين لا يبني حضارة؛ بل يورث خصومات طويلة الأمد، ويشوّه القيم التي يزعم الدفاع عنها، شأنه شأن الحروب الصليبية أيضًا. فالإسلام الذي جاء برسالة رحمة وعدل وتسامح، لم يخرج من حصار فيينا أكثر قوة ولا أكثر احترامًا، بل خرج منه محمّلًا بصورة الغازي الطامع في أرض الآخرين. وهكذا تكرست صورة نمطية ما زالت تُستخدم حتى اليوم في بعض الخطابات الغربية لتبرير العداء تجاه المسلمين.

يزيد الأمر تعقيدًا أن الأتراك -حتى الآن- يلقون باللوم على العرب، ويتهمونهم بأنهم سبب انهيار دولتهم من خلال الثورة العربية الكبرى. لكن الحقيقة أن الدولة العثمانية كانت قد بلغت من الوهن ما جعلها تُلقّب بـ"رجل أوروبا المريض"، وأن الثورة العربية لم تكن أكثر من رصاصة رحمة. ما عاناه العرب تحت الحكم العثماني من قمع وتهميش وتخلّف كان كافيًا لتفجير غضبهم، ولا يمكن اختزال سقوط إمبراطورية مترهلة في موقفهم وحدهم.
ولو قلبنا المعادلة وسألنا: ماذا لو نجح حصار فيينا وسقطت أوروبا في قبضة العثمانيين؟ هل كان وجه العالم اليوم سيتغير؟ بعضنا قد يتمنى ذلك، متخيلًا أن الإسلام كان سيغزو أوروبا وينشر قيمه هناك. لكن الواقع يخبرنا عكس ذلك. فالعالم العربي نفسه عاش تحت الحكم العثماني أربعة قرون لم يعرف فيها نهضة حقيقية ولا ازدهارًا علميًا، بل شهد انغلاقًا على الفكر، وتراجعًا في الفنون، وتجفيفًا لمنابع الإبداع. فلو خضعت أوروبا للمنطق ذاته، ربما كانت قد عانت المصير نفسه، بدل أن تنطلق نحو التنوير والعلم والصناعة.

المفارقة أن الإسلام الذي فشل العثمانيون في فرضه على أوروبا بالقوة، عاد إليها بعد قرون من أبواب أخرى أكثر إنسانية: أبواب الاستثمار والهجرة والعمل والعلم. ملايين المسلمين اليوم يعيشون في أوروبا مواطنين متساوين يتمتعون بالحرية والكرامة، ويجدون في هذه البلاد من العدالة والحقوق ما يفتقدونه في أوطانهم. في النمسا وحدها يشكّل المسلمون نحو 8% من السكان، لهم مساجدهم ومراكزهم، أبرزها المركز الإسلامي في فيينا الذي شُيِّد عام 1979 بتمويل من الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-، وافتُتح بحضور رسمي رفيع من رجال الدولة والكنيسة على حد سواء. إن رمزية هذا المركز أكبر من حجمه المادي؛ فهو شاهد على أن الحوار والدبلوماسية يبنيان ما تعجز عنه الجيوش والحروب.

عندما نقف أمام سور فيينا اليوم، نحن في الحقيقة أمام مرآة تعكس مسار حضارتين: حضارة أغلقت على نفسها أبواب الاجتهاد وحرّمت الفلسفة والفن والموسيقى، فظلت أسيرة الماضي حتى تآكلت من الداخل؛ وحضارة أخرى واجهت الغزو، ثم انطلقت لتبني بالعلم والمعرفة ما جعلها في موقع القيادة. وهنا يبرز السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا قبل أن نطرحه على غيرنا: لماذا تقدمت أوروبا وتخلفنا نحن؟

ليس الجواب في الدين، ولا في العقيدة، بل في الطريقة التي تعامل بها كل طرف مع العقل. أوروبا حررت العقل وأطلقت طاقات الفن والفكر والبحث العلمي، أما نحن فقد حاصرنا العقل وحكمنا عليه بالكفر والضلال. أوروبا حولت جراحها إلى دافع للبناء، أما نحن فحولنا انتصاراتنا العسكرية إلى قيد على التفكير الحر.

الدرس الذي يقدمه سور فيينا لا يخص أوروبا وحدها، بل يخصنا نحن أيضًا. إنه يذكّرنا بأن القوة لا تُقاس بعدد الجنود ولا بارتفاع الأسوار، بل بقدرة الأمم على تحويل قيمها إلى واقع، وعلى بناء حضارتها بالعلم والحرية. لقد آن الأوان أن نراجع أنفسنا بصدق، وأن نقر بأن الحروب التي شُنت باسم الإسلام لم تخدم الإسلام، وأن المستقبل لا يُبنى بالغزو وإنما بالمعرفة والانفتاح.

إن الإسلام في جوهره لا يحتاج إلى سيف كي يثبت حضوره؛ بل يحتاج إلى عقول مبدعة وأيادٍ تبني، وقيم أخلاقية تُترجم في الواقع. وإن أعظم ما يمكن أن نتعلمه من أطلال فيينا أن الحضارات لا تُقاس بما تهدمه من مدن، بل بما تبنيه من قيم إنسانية.

 

** كاتب بحريني

الأكثر قراءة